Magdy Samuel

مجدي صموئيل

ركض حتى رقد

 ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ، وَلكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا 1كو9: 24

أرسى لنا المسيح معان جديدة للموت والحياة، غيرت نظرتنا تمامًا لكل منهما، وجعلت معناهما عندنا مختلفًا تمامًا عن ما هو راسخ في أذهان البشر من قديم الزمن وعن ما هو راسخ الآن في أذهان الناس من حولنا.

ولولا رسوخ هذه المعاني في ذهني، بل وتحولها إلى قناعات عميقة متغلغلة في كياني تحكم نظرتي لكل الأمور وتسيطر على ردود أفعالي تجاه كل مفاجآت الحياة، ما كنت أقوى أبدًا على احتمال فراق شقيقي، وما كنت أجرؤ على أن أكتب عنه، وهو أخي الأصغر، والذي ربما تخيلت يوما أنه هو الذي يكتب عني وليس العكس.

بسبب هذه المعاني وحدها وفي نورها أكتب لكل محبيه سطورًا قليلة، تصف مجرد الإطار الخارجي للوحة بديعة رسمتها يد الخالق العظيم، لوحة قصة حياة أخي الجميل دون الدخول في التفصيلات.

 في 30\12\ 1965 كانت البداية:

في مدينة الأسكندرية، وفي الدور الخامس من منزل عائلتنا القابع في حي راغب باشا، وقبل أن يودعنا ذلك العام بساعات، أبى أن يودعنا دون أن يترك لنا أغلى الهدايا، هدية أراد بها أن يجعل نفسه عامًا عزيزًا متميزًا عند كل عائلتنا. لم تزل محفورة في أخاديد ذاكرتي بعمق تلك الصورة المبهجة والتي طالما قفزت إلى خيالي كلما كان يهل عليَّ شقيقي بطلعته المحببة لقلبي، صورة هرج ومرج في بيتنا، وجدتي لأبي تهدئ من روعي وتعدني بأن تدخلني إلى أمي لأراها بعد أن منعوني من الدخول إليها في ذلك الصباح، أخذتني جدتي بيدي وأدخلتني عند أمي وهي راقدة في فراشها بعد أن وضعت وليدها الحلو. ولا يمكن أن أنسى تلك البسمة الجميلة الهادئة التي ارتسمت على وجه أمي وهي ترحب بي وتُقَبّْلَني وتخبرني بأنه قد صار لي أخًا جميلاً سيشاركني لعبي، رسمت أمي ببسمتها بسمة على وجهي، وكفكفت بقبلتها دمعي، وأبهجت بهذا الخبر قلبي. وياله من خبر! شقيق سيشاركني لعبي! كان هذا كل ما يستوعبه عقل طفل كان لتوه أكمل عامه الرابع. أما بقية الخبر الرائع والذي لم تذكره لي أمي وقتها أنه ليس فقط سيشاركني في طفولتي لعبي، لكنه سيكون مع الأيام رفيق عمري، والذي طالما ضحكنا معًا وبكينا معا وفكرنا معا وصلينا معا وخططنا معا. وسيكون أيضًا أمين سري والذي أطمئن لحكمته ومشورته، وسيكون شريك خدمتي والذي كانت تستريح أحشائي وهو يخدم معي، وسيكون زميل مهنتي والذي أثق بشدة في كفاءته.

وفي 14 سبتمبر 2008 كان الكمال؛

كمال اللوحة:

في مدينة القاهرة، كانت الصورة الأخرى المرعبة، والتي تفرض نفسها عليَّ دون أن استدعيها فأهرب منها، الصورة التي ستظل إلى أن ألتقيه محفورة في أخاديد ذاكرتي، صورة أمي وهي تطلق صرخة مرة للغاية من شدة الألم عندما أخبرتها برحيل فلذة كبدها.

ومابين هاتين الصورتين يمتد شريط الصور التي ترصد قصة حياة شقيقي، شريط طويل لكنه يبدو قصير لسرعة دورانه ولجمال صوره الآخاذ.

اللوحة الأولى: من 0 إلى 6 الطفل الرائع:

عاش مجدي سنواته الست الأولى في الأسكندرية طفولة مميزة ورائعة، كانت أمي تصفه أمام كل أقاربنا وأصدقاء عائلتنا بالهادي. هادئ في لعبه، هادئ في حديثه، قليل في كلامه، خجول للغاية في تعاملاته. هذا كل ما تحمله ذاكرتي عن طفولته. لكن صوره في تلك المرحلة تتميز بنظرة عينيه العميقة جدًا والدافئة جدًا رغم صغر سنه. كما أن حكايات أمي عنه تكشف عن تميزه منذ طفولته بقدر كبير من الاعتزاز بنفسه والشعور الدائم بقيمته الكبيرة عند أبيه وأمه.

اللوحة الثانية: من 6 إلى 12 التلميذ المتفوق:

انتقل والدي إلى مدينة القوصية بمحافظة أسيوط وهناك بدأ مجدي دراسته الابتدائية، ومن أول سنة ظهرت عليه بوضوح علامات النبوغ والتفوق. وتحمل ذاكرتي عنه في تلك الفترة الكثير، أذكر منها سعي مدرسيه غير المسيحيين للتعرف على والدي وزيارتهم المتكررة لنا في منزلنا بسبب انبهارهم بشخصية مجدي ونبوغه. وبالطبع لم يفت أبي أن يشهد لهم عن الخلاص وعن المخلص العظيم. كما أنني أتذكر جيدًا دأب أبي وأمي في أن يلفتا نظري باستمرار لاجتهاده في الدراسة ليثيرا حماسي للمزيد من الاجتهاد، إذ كنت وقتها بدأت مرحلة المراهقة بكل مشاكلها حيث كثر خروجي من المنزل وجنوني بكرة القدم. وكانت مقارنتهم الدائمة بينه وبيني تسعده لأنها كانت دائما في صالحه، إذ أنهم لا يذكرون مرة واحدة وحيدة طلبوا منه أن يستذكر دروسه، بينما كان هذا هو طلبهم اليومي مني. كما كانت هذه المقارنة تدفعه للمزيد من الاجتهاد ليحتفظ بهذا التميز حتى صار الأول على مدرسته في سنواته الست بدون استثناء واحد.

اللوحة الثالثة : من 12 إلى 18 المراهق غير المرهق:

انتقلنا إلى مدينة ديرمواس بمحافظة المنيا، وكان مجدي في الصف السادس الابتدائي، وهناك قضى مرحلة المراهقة وهناك أنهى دراسته الإعدادية والثانوية. ولست أبالغ إذا قلت أنني لم ارى مراهقًا أراح أهله مثل مجدي، فبينما سببنا أنا وموريس الكثير من المتاعب لوالدينا، كان مجدي ليس فقط مريحا للغاية لهما بل سبب سعادة مستمرة لهما، من جانب بسبب تفوقه الدراسي، ومن جانب آخر بسبب تفوقه الأخلاقي. أذكر في تلك الفترة أن استدعاء والدي لمدرسة مجدي للحصول على شهادات التقدير كان أمرًا معتادًا! ولا أنسى يومًأ عندما أتاه في البيت زميلان يزورانه وهو في الصف الأول الإعدادي، وجلسا معه في حجرة الاستقبال. وبعد مرور وقت قصير وجدته أمي جالسا على سريره في حجرته يقرأ كتابًا تاركًا زميليه في الخارج! فاندهشت للغاية، وسألته بانزعاج: كيف تركت زميليك هكذا؟ فقال لها لقد قالا كلمة غير لائقة فقلت لهما هذا الكلام لا يقال في هذا البيت وقمت وتركتهما! وبين الذهول والإعجاب، وأمام إصراره بعدم الخروج مرة آخرى للجلوس معهما، ذهبت أمي لتصرف الزميلين بحرج بالغ. ولا أنسى في تلك الفترة كيف كانت تسليته في شهور الصيف أن يكتب لنا مجلة يومية، تحتوي على مقالات خفيفة، ومسابقة كلمات متقاطعة من الكتاب المقدس، وكان يطبع منها بالكربون أربع نسخ ويبيعها لنا النسخة بقرشين، وكان أبي يجبرنا على الشراء ليشجعه.

اللوحة الرابعة: من 18 إلى 24 الرجل الطالب.

كان مجموع درجات مجدي في الثانوية العامة هو الأكبر على مستوى المدينة، وترتيبه هو الأول على المدرسة كالمعتاد. والتحق بكلية الطب جامعة المنيا. ثم تزامنت دراستنا الجامعية حيث كنت أنا أدرس بكلية الطب جامعة الأسكندرية، وموريس بكلية الصيدلة ايضا بجامعة الأسكندرية ونيفين بكلية التجارة جامعة أسيوط، وبالطبع كان العبء المادي على والدي ثقيلاً. وما اذكره جيدًا في تلك المرحلة هو رجولته المبكرة وشعوره الضحم بالمسئولية مع أبي، بل وتطرفه في القسوة على نفسه لكي يخفف من العبء عن والدي، للدرجة التي كان معها يحتد أبي عليه لكي ينفق على نفسه. كان أبي يثق في حكمته فيرسله كل عام إلى مدينة بورسعيد ليشتري لنا جميعا ملابسنا. إلا أن اهم ما يميز تلك الفترة هو رجوعه للرب بكل قوة بعد فترة فتور في بداية التحاقه بالجامعة وليس ذلك فقط بل بدأ يخدم الرب بكل نشاط واجتهاد وإخلاص. ولن أنسى صوت أبي في التليفون ذات مساء وهو يخبرني متهللا: لقد انتهينا من الاجتماع لتونا ومجدي هو الذي قدم خدمة الكلمة وقد كانت خدمة رائعة ينبغي أن تأتي لكي ترى بعينك وتسمع بأذنيك. وبالفعل سافرت إلى ديرمواس ولم اصدق عيناي وأنا أراه يقف أمام الناس ليتكلم بكلام الله بكل حرية وانطلاق بكل تركيز وتأثير، وهو الخجول المنطوي والذي كان يعاني لمجرد السلام على الناس! فشعرت على الفور بأن هذه هي نعمة الله وبرهان صدق العمل الإلهي فيه.

اللوحة الخامسة: من 24 إلى 30 الطبيب المكافح:

كانت هذه المرحلة هي أصعب فترات حياته، بدأت بأقسى تجربة مرت بنا، قبل أن تسحقنا تجربة رحيله، إذ رحل أبي ومجدي على أبواب التخرج. كنا في الليلة الأخيرة لأبي نتناوب السهر بجواره، وفي الثالثة صباحا قام وأصر على أن أدخل أنا لأستريح قليلا. وبعد ساعة واحدة جاءني ليوقظني بهدوءه المعتاد واتزانه الكبير ليقول لي: تعال لا أعرف ماذا حدث لبابا. وأقوم على الفور لأجري إلى أبي فأجده قد خلع الخيمة ليستوطن عند الرب. وأجد مجدي يبكي في حضني قائلا لم يعطنا فرصة لكي نكرمه، عاش يخدمنا وعندما جاء الوقت لنكرمه مضى عزيزا عنا. قضى سنة يعمل بإحدى قرى ديرمواس، عانى كثيرًا من الوحدة والتعب هناك، لكن لم يزل عبير سيرته واجتهاده وأمانته هناك إلى هذا اليوم. كنت أنا وقتها قد أنهيت دراساتي العليا في الطب النفسي وألححت عليه أن يختار ذات التخصص، وقبله على مضض، لكنه ظل بعد ذلك يردد باستمرار أنه ما كان يصلح سوى طبيب نفسي. ذهب إلى القاهرة ورأيت بعيني حجم كفاحه ومعاناته واجتهاده، هذه التي أقول بدون مبالغة إذا بذل كل شاب نصفها لتفوق الجميع في أعمالهم. الكفاح في العمل وفي الدراسة، الكفاح في المستشفيات العامة وفي المستشفيات الخاصة، الكفاح فيما هو بأجر وفيما هو بدون أجر لكي يحصل منه على الخبرة. كل هذا دون أن يتوقف عن الخدمة، ولا سيما أننا كنا في تلك الفترة قد بدأنا معًا سلسلة من المؤتمرات كانت تقتضي منه عناءًا كبيرًا في الإعداد والتحضير.

اللوحة السادسة: من 30 إلى 36 الخادم المتميز:

يمكنني أن اسمي هذه المرحلة مرحلة الحصاد البهيج، إذ بدأ اسمه كطبيب نفسي متميز بعلمه وأمانته يشتهر، وبدأ عمله في هيئة كاريتاس ومجال التنمية البشرية بصفة عامة يذيع صيته، إذ عمل في العديد من الهيئات والمؤسسات المصرية والعالمية. وقد تم تكريمه من قبل منظمة الأمم المتحدة لما قدمه في مجال التنمية البشرية. وبدات عيادته الخاصة تعمل بنجاح كبير، وأصبح عضوا بالجمعية الأمريكية للطب النفسي “American Psychiatric Association” . لكن أهم الكل بدأت خدمته وموهبته في الكلمة تتبلور وتنضج أكثر. وبدأ قطيع الرب من الناطقين بالعربية في كل مكان في العالم يشعرون باحتياجهم لخدمته، فلم يقصر يوما لا في عمله كطبيب ولا في خدمته كخادم.

اللوحة السابعة : من 36 إلى 42 الزوج المثالي:

في أكتوبر من عام 2002 أكرمه الرب إله التعويضات بزوجة فاضلة أحبته من كل قلبها، وعاشت من أجله بكل جوارحها. فكان هو قضيتها وخدمتها وشغلها الشاغل، تغدق عليه بمشاعرها، وتدبر له كل ما لراحته في بيته، وتنظم له مواقيته، وتجهز له محاضراته، وتهتم بمأكله وملبسه. كانت له نعم المعين المعد له من إله كل نعمة. أما عنه هو وماذا كان لها فأترك هذا لها.

خواطر:

  • في عام 1962 انتقل أبي وأمي إلى قرية نائية في صعيد مصر ليخدما الرب الذي أحبهم. كانت أمي وقتها شابة صغيرة السن وكان عمري أنا ستة شهور. وهناك أعطاهم الرب ولدًا جميلاً سمياه مجدي، وبعد سبعة شهور مرض الطفل ومات بسبب عدم وجود أي طبيب أو علاج في تلك القرية في ذلك الوقت! بعد عدة شهور من رقاده أعطاهم الرب طفلاً آخر سمياه موريس، وكان أيضًا كما تقول أمي طفلاً رائعًا ولكن عندما أكمل أحد عشر شهرًا لحق بأخيه لنفس الأسباب! وانكسر قلب أمي بشدة وعادت هي وأبي إلى الأسكندرية مرة آخرى بقلوب دامية وعيونا دامعة. لكن إيمانها في صلاح الله لم يهتز قيد شعرة فكانت صلاتها إلى الرب أن يعوضها بولدين يكونان له ويخدمانه. وبعد شهور قليلة من عودتهما إلى الأسكندرية استجاب الرب طلبتها. وليقينها أن هذه هي استجابة الرب وتعويضه دعته بذات الاسم مجدي، وبعده بسنتين جاء الابن الثاني ودعته موريس وحقق الرب رغبتها فصارا للرب يخدمانه.
  • في حفل خطبة مجدي وهالة، قلت لهالة مجدي دائم الركض في الحياة، وركضه سريع للغاية حتى أنك ستجدين نفسك تلهثين وراءه. وقد عاش أخي يركض ورقد وهو يركض! لا أعتقد أن هذه صدفة.
  • أعلن مجدي لكثيرين قبل رحيله بأنه سيرحل! وعندما رحل كانت اللوحة السابعة قد اكتملت! فكان صاحب الكلمة الأخيرة في توقيت رحيله ليس مرض أو خطا طبيب، لكنه الفنان وقد أنهى عمله، سمع الإناء يقول تدعو وأنا أجيبك تشتاق إلى عمل يديك أيوب 14: 15. وصعد مجدي إلى سيده لينضم إلى كل الذين أنهى الفخاري عمله فيهم ليظهر فيهم إلى أبد الأبدين عظمة حكمته ونعمته.
  • في حفل وداع مجدي كان الفخاري المحب الحكيم يضع آخر رتوشه على اللوحة الأخيرة. ونحن عائلته اللذين عشنا تفاصيل هذا الحدث المروع نقر ونشهد بأن يد الرب كانت هي التي رتبت له كل شيء، بل وسيطرت على كل شيء، ولم تهمل يده الحكيمة أصغر التفاصيل أو أكبرها في الوقت الذي كنا نحن مشلولي التفكير والإرادة. لقد كان الرب حاضرًا ومسيطرًا بقوة في مشهد وداعه.
  • لم يكن بالصدفة أن يطلق أبي وأمي عليه اسم مجدي، ولم يقصدا بالطبع أن تكون ياء الملكية هنا تعود عليهما. لكنهما كان ينطقان بها نيابة عن الرب الذي عاش مجدي كل حياته لمجده وحده. وكأن الرب يشير إليه دائما بالقول هذا الإنسان كان لمجدي.

الكلمات الختامية

في النهاية اقول: لقد جعلنا الرب نفهم أن الموت الحقيقي ليس هو على الإطلاق هذا الذي يسميه الناس موتًا.

فكيف نسميه موتًا هذا الذي به نخلع تلك الخيمة ذات الأعمدة العظمية والأنسجة اللحمية، القابلة للموت بل وللفساد، لنلبس لا خيمة بل مسكنا، لا من الأرض بل من السماء؟!

كيف نسميه موتا هذا الذي به تنطلق الروح حرة مغردة من قيود اللحم والدم لتكون مع

المسيح؟!

كيف نسميه موتا هذا الذي به يضع القديس عصا الترحال لينهي تغربه في الأرض ويستوطن عند سيده في السماء؟!

كلا ، أبدًا، لا يمكن أن يكون كل هذا الجمال والجلال اسمه الموت إنه كما سماه

الكتاب انطلاق واستيطان. وحتى ما يصيب الجسد الترابي المؤقت من جراء هذه العملية لم يدعوه السيد موتًا بل رقادًا! فالروح تنطلق بفرح والجسد يرقد بسلام!

لم يمت مجدي لكنه لم يزل هنا وهناك لمجد سيده